القَدَرُ يُؤْمَنُ به ولا يُحْتَجُّ به

Admin

Administrator
طاقم الإدارة
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
320
مستوى التفاعل
46

القَدَر لا يًحتج به في الطاعة والمعصية


ليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر ، بل القدر يؤمن به ولا يحتج به ،
والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض :
فإن القدر إن كان حجة وعذرا ، لزم أن لا يلام أحد؛ ولا يعاقب ولا يقتص منه ، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه - إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته - أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه؛
وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحد أن يفعله فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.

-ولو كان القدر حجة وعذرا: لم يكن إبليس ملوماً ولا معاقباً ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ،
ولا كان جهاد الكفار جائزا ،
ولا إقامة الحدود جائزا ولا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه.

ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم: لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة؛ إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعا من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده.
لكن الشرائع تتنوع: فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك ثم المنزلة: تارة تبدل وتغير - كما غير أهل الكتاب شرائعهم - وتارة لا تغير ولا تبدل وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل.

وأما القدر: فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده ، من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} ،
قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} و{قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} ،
فبين أنهم ليس عندهم علم بها كانوا عليه من الدين وإنما يتبعون الظن.

والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر فإنه لو خرب أحد الكعبة؛ أو شتم إبراهيم الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين وما فعله هو أيضا من المقدور ، فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدّر فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر إن كان الاحتجاج به صحيحا ،
ولكن كانوا يتعمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.


آدم لم يحتج بالقدر فيما ارتكبه :

{وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟
فقال آدم عليه السلام - فيما قال لموسى - لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ فحج آدم موسى} (الحديث ) ،
لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهي عنه بالقدر،
ولا كان موسى عليه السلام ممن يحتج عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى؟ .
وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حُجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك ،
ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره،
وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها ، كيف وقد قال موسى {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وقال: {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} وهذا باب واسع.

وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال: {لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة} ؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع ، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر ،
فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر: لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب. والعبد مأمور أن يصبر على المقدور ويطيع المأمور وإذا أذنب استغفر ،
كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

فمن احتج بالقدر على ترك المأمور وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين وصار من حزب الملحدين المنافقين وهذا حال المحتجين بالقدر.

فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له ، وإذا أذنب ذنبا أخذ يحتج بالقدر فلا يفعل المأمور ولا يترك المحظور ولا يصبر على المقدور ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين وأئمة المحققين الموحدين ، وإنما هو من أعداء الله الملحدين وحزب الشيطان اللعين.

وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان ،
تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا وأذل الناس إذا قهر وأعظمهم جزعا ووهنا؛ كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقاتلة من أصناف الناس

..
والمؤمن إن قدر عدل وأحسن وإن قهر وغلب صبر واحتسب،
كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم - التي أولها بانت سعاد إلخ - في صفة المؤمنين-:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا ،
وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر.
وقد قال تعالى: {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}
وقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} ، فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة ، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور.
فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير بخلاف من عكس فلا يتقي الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر ولا يصبر إذا ابتلي ولا ينظر حينئذ إلى القدر ،
فإن هذا حال الأشقياء كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به،
يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك فتنسى نعمة الله عليك إن جعلك مطيعا له ، وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب؛ بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ.

وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال:
"إذا عمل العبد حسنة فقال: أي ربي أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها ، فإن قال: أي ربي أنت أعنتني عليها ويسرتني لها قال له ربه: أنت عملتها وأجرها لك ،
وإذا فعل سيئة فقال أي ربي أنت قدرت علي هذه السيئة. قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها فإن قال أي ربي إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك"..
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور وهذا أعظم الضلال..
( المصدر | ابن تيمية في مجموع الفتاوى )