حسن الاستماع والإنصات والإصغاء فضيلة كبرى نتعلّمها من الله الكبير المالك الذي لا معقّب لأمره ولا راد لقضائه حينما استمع لإبليس الرجيم في حججه المرذولة عندما رفض السجود لآدم، وقد ذُكر هذا الحوار في سبعة مواضع من القرآن الكريم.
وضرب المصطفى عليه السلام المثل الرائع في حسن الاستماع والإصغاء للآخرين كافرهم ومؤمنهم، صالحهم وطالحهم، ذكرهم وأنثاهم، حرّهم وعبدهم، فكان صلى الله عليه وسلم المثال الأعلى في تجسير العلائق مع الآخرين واستيعابهم، والانتفاع بالصالح عندهم، ففي مكة كان مستمعا جيدا لترهات قريش وجدلهم، وهم قوم خصمون، فلما جاءه عتبة بن ربيعة مُوفدا من قريش لإدارة مفاوضات تنهي الاحتراب والخصام تركه النبي صلى الله عليه وسلم يعرض ما عنده من اقتراح مغريات الملك والجاه والمال والتطبيب، وبعد ذلك قال له: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، ثم تلى عليه أوائل سورة فصلت
وفي موقف آخر للاستماع الجيد من المصطفى صلى الله عليه وسلم لأقوال خصومه، وهو الحريص على إيمانهم، جاءه عبد الله بن أم مكتوم يستقرئه القرآن، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حرصا على إكمال الحوار مع المحادين، فنزلت سورة عبس معاتبة المصطفى في تركه الاستماع لابن أم مكتوم، والذي كان فيما بعد كلما لقيه صلى الله عليه وسلم يقول له:
مرحبا بمن عاتبني فيه ربي.
وفي المرحلة المدنية استمر المصطفى صلى الله عليه وسلم على المهيع نفسه في حسن الاستماع لمختلف مكونات مجتمع المدينة، وهو القائد والإمام والقاضي، فعندما يختصم الخصوم لديه يذرهم يستفرغون كل حججهم ومرافعاتهم، وعلى الرغم من سوء أدب البعض، فقد ورد في ترسيخ فضيلة الاستماع:
” أن رجلا تقاضى النبي فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا”(البخاري، 2260).
وينزل المصطفى صلى الله عليه وسلم السوق، فتستوقفه العجوز، فينصت لها مستمعا ولا يدعها حتى يقضي حاجاتها، وعادة النساء الاطناب في الكلام، ويروي عدي بن حاتم الطائي هذا المشهد المخالف لمأثور السادة والكبراء، فيقول ما يكون هذا بملك؟
أما في زماننا فإن بعض من يملك السلطة التي خول بها لخدمة الغير، فتراهم يحتجبون أو يغلقون أبوابهم أيام الاستقبال المُعلن عنها بحجة أنهم غائبون، أو مجتمعون، ولتذهب مصالح الناس إلى الجحيم.
وتأتي المرأة المهيضة الجناح المكسورة الخاطر للمصطفى صلى الله عليه وسلم شاكية باكية، فيصغي لها كما في قصة المجادلة:
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة، 1).
ويأتيه الشاب مستأذنا في الفاحشة، ويكاد الصحابة يضربونه لانتهاكه الحرمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يدنيه ويستمع إليه، ويقول مداويا هذه الرغبة في الانحراف: أترضى الزنا لأمك، لأختك، لعمتك؟، فيقول الفتى: لا أرضاه، يقول: كذلك الناس لا يرضون” (أحمد، 22211).
ويأتيه الأعراب الغلاظ الجفاة صارخين: أيكم ابن عبد المطلب؟ فيرضيهم النبي بما استطاع من جميل القول، أو مديد العطاء إن كان عنده، فيقول قائلهم: جئتكم من عند خير الناس.
ولكثرة استماعه للأطياف المختلفة عابه المنافقون: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } (التوبة،61).
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليترك سمات القائد الذي يهتم بأمر الجميع، بل كان دائم اليقظة حاد البصيرة في استيعاب المشاكل القائمة والطارئة، وما تأتّى له ذلك إلا بالانخراط في حياة أصحابه الذين لم يترفّع عنهم، وإنما كان واحدا منهم لم يتميّز في ملبس أو مأكل أو مجلس، فيأخذ في حديث الدنيا إذا خاضوا، أو يستذكر مع زوجاته أخبار الجاهلية كما هو الوارد في حديث أم زرع، وهكذا شأنه مع أصحابه الذين قاسمهم أفراحهم وأتراحهم، وميزة المصطفى هو القدرة على استيعاب الجميع مؤمنين سابقين أو مقتصدين أو ظالمين.
إذ أن التميز المظهري أو الحياتي خطر عظيم تظهر عقابيله المشينة بعد حين، وأول أخطاره أنه يسدّ منافع الاستماع، وتجد شواهده حاضرة في حياة بعض الأئمة والربيين والرهبان الذين يظنون أن الاختلاط بالناس منقصة في أقدارهم، فتراهم لا يستمعون إلا لأنفسهم، فلا يفيدون ولا يستفيدون.