بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
- الآية رقم (1) (الم)
- تقرأ ( ألف، لام ، ميم ) .
- اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أوائل السور،
فَقَالَ بعض التابعين : هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ فِي كُلِّ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ سِرٌّ.
فَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَقْرَأُ كَمَا جَاءَتْ..
- وقال الشيخ محمد الشعراوي : بدأت سورة البقرة بتلك الحروف ،
وكذلك سور أخرى مثل آل عمران بدأت ب ( الم ) وفيه " المر" و" المص " و"الر" و "كهيعص" و "طه" و"يس" و" ن" و "حم "،
والسؤال عن معاني تلك الحروف هو سؤال خطأ ، فلا يُسْأل عن معانيها فهي حروف مباني ، تبنى منها الكلمة فتؤدي معناها ، فلا معنى لها في ذاتها الا أدائها للصوت ،
فالحروف تنقسم الى قمسين : حرف مبنى وحرف معني ،
فتكون (الكاف) حرف مبنى في كلمة مثل ( كتب ) فهي مبنية من ثلاث حروف ، الكاف والتاء والباء،
وحرف معنى ،كما في قولنا (محمد كزيد ) ومعناها التشبيه .
و ( الباء ) كما في قولنا ( كتب بالقلم) فالباء هنا تفيد معنى الاستعانة أي كتب بواسطة القلم ، مقابل الباء في ( كتب) فلا معنى لها بمفردها وانما المعنى من تكوينها مع الكاف والتاء ، إفادة فعل الكتابة .
ولكن السؤال يكون : لماذا بدأ الله بتلك الحروف ؟.
والجواب ، أنه اعجاز يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،
فالأمي يعرف مسميات الحروف وينطقها ، ولكنه لا يعرف أسماء الحروف فعندما يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويقول ألف لام ميم ونطقها ساكنة ويقف عند كل حرف ، و هو أمي لا يعرف أسماء الحروف ، فمن علّمه ؟ لا بد أنه توقيفي وأنه قالها كما سمعها من الحق بأذنيه ، وأنه لم ينطقها كما في قوله تعالى ( ألم نشرح ) .
الآية رقم 2 : ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ الْكِتابُ): الْمَعْنَى هَذَا الْكِتَابُ.
وَ" ذلِكَ " قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى حَاضِرٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَزَّ:" ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ "
- وَاخْتُلِفَ فِي المقصود (الكتاب) ذَلِكَ الْغَائِبِ عَلَى أقوال منها:
قِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كِلَيْهِمَا .وَقِيلَ : إِشَارَةٌ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
والصحيح هنا ، كما قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى هَذَا الْقُرْآنُ .
ودليله أن الله سمّى الله القرآن "الكتاب" في مواضع كثيرة منها (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) آل عمران
و (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ) النساء .وقوله ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) الحجر .
و( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) الكهف ،وغيرها كثير .
- وَالْكِتَابُ مَصْدَرٌ مِنْ كَتَبَ يَكْتُبُ إِذَا جَمَعَ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَتِيبَةٌ، لِاجْتِمَاعِهَا. وَتَكَتَّبَتِ الْخَيْلُ صَارَتْ كَتَائِبَ. وَالْجَمْعُ كُتَبٌ.
ومعنى َالْكِتَابُ هنا: هُوَ خَطُّ الْكَاتِبِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مَجْمُوعَةً أَوْ مُتَفَرَّقَةً، وَسُمِّيَ كِتَابًا وَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا،
وَقد يكون معنى الْكِتَابُ: الْفَرْضُ ، وَالْحُكْمُ ، وَالْقَدَرُ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: ( لَا رَيْبَ ) نَفْيٌ عَامٌّ، وَلِذَلِكَ نُصِبَ الرَّيْبُ بِهِ.
وَفِي الرَّيْبِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا، الشَّكُّ، وَثَانِيهَا، التُّهَمَةُ، وثالثها: الحاجة .
فَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَكٌّ فِيهِ وَلَا ارْتِيَابٌ ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ حَقٌّ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا مُحْدَثٌ ، وَإِنْ وَقَعَ رَيْبٌ لِلْكُفَّارِ .
وَقِيلَ : هُوَ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ لَا تَرْتَابُوا .
وقال الرازي :الرَّيْبُ قَرِيبٌ مِنَ الشَّكِّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ، كَأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ تَقُولُ رَابَنِي أَمْرُ فُلَانٍ إِذَا ظَنَنْتَ بِهِ سوء، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)
- وَالْهُدَى :فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الرُّشْدُ وَالْبَيَانُ ، والنَّهَار . أَيْ فِيهِ كَشْفٌ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَرُشْدٌ وَزِيَادَةُ بَيَانٍ وَهُدًى.
والْهُدَى هُدَيَانِ: هُدَى دَلَالَةٍ، وَهُوَ الَّذِي تَقْدِرُ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ " [الرعد: 7].
فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ وَالدَّعْوَةُ وَالتَّنْبِيهُ،
وَتَفَرَّدَ هُوَ سُبْحَانَهُ بِالْهُدَى الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْيِيدُ وَالتَّوْفِيقُ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ" [القصص: 56] فالهدى على هذا يجئ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ .:" وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ" [فاطر: 8]
- (التَّقْوَى ) وقى الشيء وقاية أي صانه ، و"المتقين" أي الذين حفظوا أنفسهم وستروها من كل أذى .
وَالْمُتَّقِي هُوَ الَّذِي يَتَّقِي بِصَالِحِ عَمَلِهِ وَخَالِصِ دُعَائِهِ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى، مَأْخُوذٌ مِنَ اتِّقَاءِ الْمَكْرُوهِ بِمَا تَجْعَلُهُ حَاجِزًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ .
قال ابن كثير: وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44]. { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار.
_________________________________________________
الآية رقم 3: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ )
- قوله (الذين) صفة للمتقين .
عن ابن عباس، { يُؤْمِنُونَ } يصدقون. و عن الربيع بن أنس: { يُؤْمِنُونَ } يخشون.
و الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [يوسف: 17]،
وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الإنشقاق: 25، والتين: 6]،
فأما إذا استعمل "مطلقًا " فهو الإيمان الشرعي المطلوب ولا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
- ومنهم من فسّره بالخشية، لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [الملك: 12]،
- معنى (الغيب) قال القرطبي : الْغَيْبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ .
وعن أبي العالية،وقتادة بن دعامة في قوله: { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله.
وقال زيد بن أسلم: أي بالقدر.
- قوله تعالى { ويقيمون الصلاة }
قال ابن الجوزي : الصلاة في" اللغة" :الدعاء . وفي" الشريعة": أفعال وأقوال على صفات مخصوصة،
قال مقاتل : أراد بها هاهنا الصلوات الخمس . وَقِيلَ: الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ مَعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال :
أحدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به .
والثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها .
- والثالث :إدامتها والعرب تقول في الشيء الراتب قائم وفلان يقيم أرزاق الجند .
قلت والصلاة تحمل معنى الصلة والوصل بين المصلي والمصلى له ، لذلك يقال للمصلي حينئذ" أقام الصلاة " )
- وَالصَّلَاةُ: الْعِبَادَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ" [الأنفال: 35] الْآيَةَ، أَيْ عِبَادَتُهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
- رَزَقْنَاهُمْ: أي أَعْطَيْنَاهُمْ ،
وَالرِّزْقُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (مَا انتفع بِهِ) حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا،
خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْزُقُ الْحَرَامَ وَإِنَّمَا يَرْزُقُ الْحَلَالَ، وَالرِّزْقُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْمِلْكِ.
و الرِّزْقُ مَصْدَرُ رَزَقَ يَرْزُقُ رَزْقًا وَ رِزْقًا . وَجَمْعُهُ أَرْزَاقٌ، وَالرِّزْقُ: الْعَطَاءُ.
و" يُنْفِقُونَ" أي يُخْرِجُونَ.
وَالْإِنْفَاقُ: إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْيَدِ، وَمِنْهُ نَفَقَ الْبَيْعُ: أَيْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي.
وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ: خَرَجَتْ رُوحُهَا، وَمِنْهُ الْمُنَافِقُ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ يَخْرُجُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ.
وَنَفَقَ الزَّادُ: فَنِيَ وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ. وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ: فَنِيَ زَادُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ " [الاسراء: 100].
و الْمُرَادِ بِالنَّفَقَةِ يعمّ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ و صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وكل مايلزم المرء من نفقة الأهل وغيرها..