مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
- قوله تعالى ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ )
( الأمثال في القرآن)
الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ وَالْمَثِيلُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الشَّبِيهُ.
والشِّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ :المِثْلُ ،والجمع أَشْباهٌ ، وَالْمُتَمَاثِلَانِ: الْمُتَشَابِهَانِ،
وَالْمَثَلُ : ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال . والجمع: أَمْثالٌ .
قالوا ومَثَلُ الشيء صفته ، و مَثَل الجنة يعني صفتها .
ومنه "التماثيل" و" تمثَّل لها".
والمَثَلُ قد يكون بمعنى الحُجْة والآية .وقد يكون بمعنى الشبيه والنظير كقوله تعالى " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"
قالوا : من أعظم عِلْم
القرآن هو عِلْم أمثاله .
- وقال الرازي (المتوفّى عام 606هـ) : "إن المقصود من ضرب الاَمثال انّها توَثر في القلوب ما لا يؤَثره وصف الشيء في نفسه،
وذلك لأنّ الغرض في المثل تشبيه الخفى بالجلي، والغائب بالشاهد،
فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل ،وذلك في نهاية الاِيضاح،
ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الاِيمان مجرّداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثّل بالنور،
وإذا زهّد في الكفر بمجرّد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة،
وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الاِخبار بضعفه مجرّداً،
ولهذا أكثر
الله تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه أمثاله . انتهى
وكذلك الأمثال في الأحاديث النبوية .
- وقال
محمد الشعراوي في خواطره :
حين يأتي الله بالمثَل ، قلنا أن المثَل هو الشِّبْهُ والشَّبَهُ ، شيء غامض على ذهن السامع وهو اما معنوي غيبي أو محسوس لم يعرفه من قبل ، فيجلي الشيء الغامض ويوضحه بمثل محسّ والشبه شيء معقول معلوم للسامع .
فاذا شاع هذا المثل وفشى بين الناس صار من الأمثال فيطلق على كل حال مشابه .
- ذكر الله في كتابه العزيز كلمة " الأمثال " في عشرة مواضع:
مرة في "الرعد و النحل والاسراء والنور والعنكبوت والحشر"،
ومرتان في "ابراهيم" ، و"الفرقان" .
وفي آية العنكبوت قال تعالى ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) .
طالع بالتفصيل والشرح لأمثال القرآن في موضوعنا ( الأمثال في القرآن ) في المدونة mahlawy.com
قوله ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) قال ابن كثير : وتقدير هذا المثل:
أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا،
فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها ،فعرف الحلال والحرام، وعرف الخير والشر ،وأنس بكلمة لا اله الا الله، فأضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا و ناكح بها
المسلمين،
فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي،
وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك،
فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد.
وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقال
فخر الدين الرازي :
والتشبيه هاهنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ،ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] .
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم،
ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [المنافقون: 3]؛
فلهذا وجه ابن جرير هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة، بالواحد : كما قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [الجمعة: 5]،
- قوله تعالى: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق، { لا يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها،
وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم ، { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
- قوله تعالى ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) الصَّمَمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الِانْسِدَادُ، يُقَالُ: قَنَاةٌ صَمَّاءُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُجَوَّفَةً. وَصَمَمْتُ الْقَارُورَةَ إِذَا سَدَدْتُهَا. فَالْأَصَمُّ: مَنِ انْسَدَّتْ خُرُوقُ مَسَامِعِهِ. وَالْأَبْكَمُ: الَّذِي لَا يَنْطِقُ وَلَا يَفْهَمُ، فَإِذَا فَهِمَ فَهُوَ الْأَخْرَسُ. وَقِيلَ: الْأَخْرَسُ وَالْأَبْكَمُ وَاحِدٌ. وَالْعَمَى: ذَهَابُ الْبَصَرِ.
(فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) قلت . أي فقدوا حواسهم الثلاثة السمع والنطق والابصار فلا يستطيعون الرجوع عما هم فيه من الظلام والضلالة والنفاق ،
أو يرجعون الى إسلامهم الأول .
( قلت .) لم يقل الله ( ذهب بالنار أو الضوء )، فلما قال ذهب (بنورهم )، قيد "النور" فأضاف اليه الضمير "هم" ،
كي يخبرنا بأن النار باقية يستفاد منها غيرهم بضوئها ، وأن دين الله
الاسلام يمكث في الأرض ينتفع منه المؤمنون وعلى نور من ربهم .
وقوله ( استوقد ) معناه أن المنافقين طلبوا ايقاد النار وأنهم طلبوا الدخول في الاسلام ، ولكنهم ما لبثوا أن ارتدوا على أعقابهم
________
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب ونوع آخر من المنافقين،
وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم مثل الصيب في السماء .
والصيب: المطر ، نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق.
{ وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ } [المنافقون: 4]
والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛
ولهذا قال: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }
أي: ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته .
- والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد .
- { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }.
يقول: يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين.
- { كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا }
أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين .
وهكذا يكون المنافقون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم،
فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى.
ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين.
وقال الله في حق المؤمنين الصادقين : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ،
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم: 8] .
و عن عبد الله بن مسعود، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يرى نوره كالنخلة،
ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد مرة.
- قال ابن كثير: المؤمنون صنفان: مقربون وأبرار،
و الكافرون صنفان: دعاة ومقلدون،
والمنافقون-أيضًا-صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عَمْرو، عن
النبي صلى الله عليه وسلم:
("ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها : من إذا حَدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " ).
واستدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق. إما عَمَلي لهذا الحديث ،
أو اعتقادي كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء .
- قوله تعالى ( وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ )
قال منه قوله ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ") [الكهف: 42]. وقَوْله تَعَالَى:" إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ " [يوسف: 66]
ذكره القرطبي ، وَقِيلَ:" مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ" أَيْ عَالِمٌ بِهِمْ. دَلِيلُهُ:" وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً " [الطلاق: 12].
والمعنى محيط ، بأنهم في علمه وقدرته وقبضته . أو هو مهلكهم .
- (قلت. ضرب الله تعالى مثلين لحال المنافقين مع ما أنزله للناس من قرآن ونور وهدى، ففي الأول: شبّه الوحي بالنار التي هي مادة للنور والهدى.وفي الثاني :شبه الوحي بالمطر الذي يصاحبه ظلمات ورعد وبرق، فالظلمات والرعد من شبهات ومتشابهات أو شدائد وابتلاءات لذلك قال( وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) وأما البرق حين يضيء لهم قال (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ) أي حين يجدون لهم فيه منافع وغنائم.
فالله يشبه ما انزله من الوحي تارة بالنور وتارة يشبه بالماء وفي مواضع أخرى يقول في النور (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)
النساء ،
و في الماء قال (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الرعد
______