تفسير سورة آل عمران

Admin

Administrator
طاقم الإدارة
المحلاوي
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
605
مستوى التفاعل
104

الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)


(الم) تقرأ ألف لام ميم ، والسؤال عن معاني تلك الحروف هو سؤال خطأ ،
فلا يُسْأل عن معانيها فهي حروف مباني ، تبنى منها الكلمة فتؤدي معناها ، فلا معنى لها في ذاتها الا أدائها للصوت ، فالحروف تنقسم الى قمسين : حرف مبنى وحرف معني.
ولكن السؤال يكون : لماذا بدأ الله بتلك الحروف ؟.
والجواب ، أنه اعجاز يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،
فالأمي يعرف مسميات الحروف وينطقها ، ولكنه لا يعرف أسماء الحروف فعندما يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويقول ألف لام ميم ونطقها ساكنة ويقف عند كل حرف ، و هو أمي لا يعرف أسماء الحروف ، فمن علّمه ؟ لا بد أنه توقيفي وأنه قالها كما سمعها من الحق بأذنيه ، وأنه لم ينطقها كما في قوله تعالى ( ألم نشرح ) .
وقال بعض المفسرين: أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإن لم تقدورا عليه فأعلموا أنه من الله .

ثمانون آية من أول آل عمران في أمر عيسى وردا على النصارى :

- قال ابن جرير الطبري : وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها من نفي الألوهية أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله.
فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة (يعني الملاعنة فيدعو كل طرف من المتنازعين على الآخر باللعن ) فأبوا ذلك، وسألوا قَبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم.

ويروى في سبب نزول تلك الآيات :

إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه ؟
"وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا"،
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه؟
قالوا: بلى!
قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى!
قال: ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه؟
قالوا: بلى!
قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟
قالوا: لا!
قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟
قالوا: بلى! قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟
قالوا: لا!
قال: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟
قالوا: بلى!
قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث؟
قالوا: بلى!
قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث؟
قالوا بلى!
قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟
قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا، فأنزل الله عز وجل: "ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم" ) انتهى .

- قوله ( الحي القيوم )

اسم الله (الحي) أي أن لا تقبل حياته التغيرات من حال الى حال وتظل الحياة تامة ابدا، مثل النوم عند البشر فقال تعالى ( الله يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حينَ مَوْتِها والتي لم تَمُتْ في مَنامها) ،​

ولا ينتقص من صفات حياته عز وجل مثل انقطاع الشهيد عن أهله وأرضه وعمله في الدنيا رغم وصفه بالحي كما قال تعالى(ولا تَقُولوا لمن يُقْتَلُ في سبيل الله أَمواتٌ بل أَحياء ).​

, الآية هي رد على وصف النصارى لعيسى بأنه ابن الله ، اذ قال تعالى ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ )​

وقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )​

فتمام الحياة ان يشهد الحي كل شيء كل وقت .​

و أما اسم (القيوم) فهو القائم بذاته، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم، من الليل والنهار، والحر والبرد، والرياح والأمطار، والنعم التي لا يقدر عليها سواه.​

ولما ذكر أن الاله يجب أن يكون حيا قيوما ، وأن عيسى (يسوع) ما كان حيا قيوما، حيث أن النصارى يقولون بأن عيسى قٌتل ومات مصلوبا وأظهر الجزع من الموت علمنا قطعا أن عيسى لم يكن إلها .​

تابعونا ....
 
التعديل الأخير:
  • Like
التفاعلات: yasma

yasma

Moderator
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
2,026
مستوى التفاعل
104
ما شاء الله لا قوة الا بالله آل عمران وذكريات آل عمران
جزاك الله خير يا رب 🙏

FB_IMG_1664692362224.jpg
 
  • Like
التفاعلات: Admin

Admin

Administrator
طاقم الإدارة
المحلاوي
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
605
مستوى التفاعل
104
  • Like
التفاعلات: yasma

Admin

Administrator
طاقم الإدارة
المحلاوي
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
605
مستوى التفاعل
104

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)


- قَوْلُهُ تَعَالَى: ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (بِالْحَقِّ) أي بالصدق،
وقيل: بالصدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجوك من نصارى أهل نجران.
وقيل: بالحجة الغالبة.
والقرآن نزل نجوما: أي شيئا بعد شيء، فَلِذَلِكَ قَالَ" نَزَّلَ" وَالتَّنْزِيلُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ نَزَلَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلِذَلِكَ قَالَ" أنْزل التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ "
و" مصدقا" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ غَيْرُ مُنْتَقِلَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَدِّقٍ، أَيْ غَيْرَ مُوَافِقٍ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدَّرَ فِيهِ بَعْضُهُمُ الِانْتِقَالَ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِنَفْسِهِ وَمُصَدِّقٌ لِغَيْرِهِ.

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يَعْنِي مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ المتقدمة كقوله تعالى
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ).

وَالتَّوْرَاةُ مَعْنَاهَا الضِّيَاءُ وَالنُّورُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَرَى الزَّنْدُ ، إِذَا خَرَجَتْ نَارُهُ، و الزند عود خشب يقتدح به النار ، ومنه قوله تعالى ( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ )
وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّوْرِيَةِ، وَهِيَ التَّعْرِيضُ بِالشَّيْءِ وَالْكِتْمَانُ لِغَيْرِهِ، فَكَأَنَّ أَكْثَرَ التَّوْرَاةِ مَعَارِيضُ وَتَلْوِيحَاتٌ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ وَإِيضَاحٍ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ.

وَالْإِنْجِيلُ :إِفْعِيلٌ مِنَ النَّجْلِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَنَاجِيلَ، وَتَوْرَاةٍ عَلَى تَوَارٍ،
فَالْإِنْجِيلُ أَصْلٌ لِعُلُومٍ وَحِكَمٍ.
وَيُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ نَاجِلَيْهِ، يَعْنِي وَالِدَيْهِ، إِذْ كَانَا أَصْلَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَجَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا اسْتَخْرَجْتُهُ، فَالْإِنْجِيلُ مُسْتَخْرَجٌ بِهِ عُلُومٌ وَحِكَمٌ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَلَدُ وَالنَّسْلُ نَجْلًا لِخُرُوجِهِ .
وَقَدْ يُسَمَّى الْقُرْآنُ إِنْجِيلًا أَيْضًا، كَمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:( " يَا رَبِّ أَرَى فِي الْأَلْوَاحِ أَقْوَامًا أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي".
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ:" تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَنَاجِيلِ الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ

- قوله تعالى (هُدىً لِلنَّاسِ)
قَالَ ابْنُ فُورَكَ : التَّقْدِيرُ هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، دَلِيلُهُ فِي الْبَقَرَةِ" هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" فَرَدَّ هَذَا الْعَامَّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ.( أي ردّ الناس الى المتقين )
القول الثاني : وهو قول الأكثرين : أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى ، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل ، والله أعلم بمراده .

- القول في تأويل قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
و"الفرْقان"، إنما هو"الفعلان" من قولهم:"فرق الله بين الحق والباطل"،
( قلت وعليه فهو القرآن لأنه فصل في أمر عيسى وغيره )
- واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله ، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال :

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بآيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى ، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله ،
والمحققون من المفسرين قالوا : خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى .
- ثم قال : { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
والعزيز الغالب الذي لا يغلب ،والانتقام العقوبة ، يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه ،
والعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب ، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب ، فالأول : صفة الذات ، والثاني : صفة الفعل ، والله أعلم .
 
  • Like
التفاعلات: yasma

Admin

Administrator
طاقم الإدارة
المحلاوي
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
605
مستوى التفاعل
104

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)


- قال الرازي : إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين :
الاحتمال الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم ، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم ، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين:
أحدهما : أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية
والثاني : أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها ،
والأول : لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ،
والثاني : لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات ، فقوله { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيء فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات ، فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات ، لا يشغله سؤال عن سؤال ، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين
ثم قوله { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات ، وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم ، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ،
ثم فيه لطيفة أخرى ، وهي أن قوله { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه ، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي ، وذلك هو أن نقول : إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة ، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً ، فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا ، فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك ، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة ، والتركيب الغريب ، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها عظام ، وبعضها غضاريف ، وبعضها شرايين ، وبعضها أوردة ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن ، والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ، ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم ، فكان قوله { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ، ودالاً على صحة ما تقدم من قوله { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، وقادر على كل الممكنات ، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات ، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم .

والاحتمال الثاني : أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها ، وذلك لأن النصارى ادعوا إلهية عيسى عليه السلام ، وعولوا في ذلك على نوعين من الشُّبَه ( جمع شُبْهة ) ، أحد النوعين، شُبَه مستخرجة من مقدمات مشاهدة ،
والنوع الثاني : شُبَه مستخرجة من مقدمات إلزامية .

- أما النوع الأول من الشُبه المستخرجة من المشاهدات : فاعتمادهم في ذلك على أمرين
أحدهما : يتعلق بالعلم والثاني : يتعلق بالقدرة .

أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب ، وكان يقول لهذا : أنت أكلت في دارك كذا ، ويقول لذاك : إنك صنعت في دارك كذا ، فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم .

وأما الأمر الثاني من شبههم ، فهو متعلق بالقدرة ، وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة ،
وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ، ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله { الحى القيوم } [ آل عمران : 2 ] يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً ، وعيسى ما كان حياً قيوماً ، لزم القطع إنه ما كان إلها ،
فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين :

أما الشبهة الأولى : وهي المتعلقة بالعلم ، وهي قولهم : إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلها ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِي السماء }
وتقرير الجواب: أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه ، وتعليم الله تعالى له ذلك ،
لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإله لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً ، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ،
ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات ، فكيف والنصارى يقولون : إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله ، لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله ، وأنه يتأذى بذلك ويتألم ، فكان يفرّ منهم قبل وصولهم إليه ، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات ،
فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلها، فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلهية ، وأما الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلهية ،
فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم .

- أما الأمر الثاني : من الشبه ، وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة ،
فأجاب الله تعالى عنها بقوله { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ، لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له .

أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلهية ، وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب ، والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ، ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه ،
فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلها ، أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلها ، فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة .

- وأما النوع الثاني من الشُبَه المبنية على مقدمات إلزامية ،
وحاصلها يرجع إلى نوعين :
النوع الأول : أن النصارى يقولون : أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر ، فوجب أن يكون ابناً له ،
فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب .

والنوع الثاني : أن النصارى قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ، فهذا يدل على أنه ابن الله ،
فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز ، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات .. وذلك هو المراد بقوله { هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ ءايات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات } [ آل عمران : 7 ]
فظهر بما ذكرنا أن قوله { الحى القيوم } إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله ولا ابن له ،

وأما قوله { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم ،
وقوله { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء } جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة ، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر ، فوجب أن يكون ابناً لله ،

وأما قوله { هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } [ آل عمران : 7 ]
فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ،
ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب ، وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ..
ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث ، فقال : { لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم ، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب ، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور لا يكفي في كونه إلها فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز ، وكامل العلم وهو الحكيم ، وبقي في الآية أبحاث لطيفة ، أما قوله { لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله { فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } مع أنه لو أطلق كان أبلغ .
قلنا : الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى ، وذلك لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض ، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال ، فإن المثال يعين على الفهم .

- ومعنى قوله { هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ } قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة ، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله ، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه .
- قال الطبري : حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:" هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"،
أي : قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا ؟
____
 
  • Like
التفاعلات: yasma

yasma

Moderator
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
2,026
مستوى التفاعل
104
جزاك الله خير يا رب العالمين
 
  • Like
التفاعلات: Admin

Admin

Administrator
طاقم الإدارة
المحلاوي
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
605
مستوى التفاعل
104

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)


- قوله { هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب }
قال الرازي : ذكرنا أن من جملة شُبَه النصارى، تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : إنه روح الله وكلمته ،
فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه ، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم ، هو في غاية الحسن والاستقامة .

- (قلت ) وهنا لطيفة في وجه آخر لمناسبة ذكر الآيات المتشابهات في الكتاب ، وهي ذكر معجزات عيسى – والتي هي أيضا من آيات الله – فكأن معجزات عيسى في الاحياء وخلق الطير وغيرها هي أيضا من المتشابهات والتي ينبغي عدم اتباعها فيظن أن عيسى اله ، وينبغي ردها الى من خلق السموات والأرض وخلق عيسى نفسه وصوره في الأرحام فهو الاله الحق الواحد ).
- قال تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ )

- قال ابن كثير : يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس .
- قلت روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
( ان القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به ) ،( ذكره ابن كثير عن الحافظ ابن مردويه )
اذن فالمفهوم من الحديث ان المحكم هو ما عُرف والمتشابه ما لم يُعْرف وأن المتشابه لا يعمل به .
وأيضا من مفهوم قوله تعالى ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ )
أن المتشابه لا يُعْرف تأويله أي تفسيره وان الله مستأثر بعلمه ،
وبمفهوم المخالفة والمقابلة ، فان المحكم معروف تأويله وتفسيره .
قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ ،
أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْوُ" لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ" .
وَالْمُتَشَابِهَاتُ نَحْوُ" إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً "
يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ" وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ "
- روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت

تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ ، فَاحْذَرُوهُمْ )
( أخرجه مسلم في كتاب العلم- باب النهي عن اتباع متشابه القرآن )

- قال الرازي : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } وفيه سؤالان :
السؤال الأول : ما معنى كون المحكم أُمّاً للمتشابه ؟ .
الجواب : الأمّ في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء ، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات ،

وقيل : أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب ، وهو أنه قال : إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها ، فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ،
ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة ، فكان قوله { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية ، وكان قوله : عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم .

السؤال الثاني : لم قال : { أُمُّ الكتاب } ولم يقل : أمهات الكتاب؟ .
الجواب : أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ، ونظيره قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً } [ المؤمنون : 50 ] ولم يقل آيتين ، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة ، فكذلك ههنا .
ثم قال : { وَأُخَرُ متشابهات } أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث.

- ثم قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } إعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه ،
بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه ، والزيغ الميل عن الحق ، يقال : زاغ زيغاً : أي مال ميلاً ،
واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله { فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }
فقال الربيع : هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه قال : بلى . فقالوا : حسبنا . فأنزل الله هذه الآية ، ثم أنزل
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عمران : 59 ]
وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور
وقال قتادة والزجاج : هم الكفار الذين ينكرون البعث ، لأنه قال في آخر الآية { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وقال المحققون : إن هذا يعم جميع المبطلين ، وكل من احتج لباطله بالمتشابه ، لأن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه .
- واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه ، بيّن أن لهم فيه غرضين ، فالأول : هو قوله تعالى : { ابتغاء الفتنة }
والثاني : هو قوله { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } .
فأما الأول : فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر ،

وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً :
أولها : قال الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين ، صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة
وثانيها : أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة
وثالثها : أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه .

وأما الغرض الثاني لهم : وهو قوله تعالى : { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير ، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه ، وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه ، هذا معنى التأويل في اللغة ،
ثم يسمى التفسير تأويلاً ، قال تعالى : { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] وقال تعالى : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ]
وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ،
واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم ؟
وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟.
وَمَعْنَى" ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ" طَلَبُ الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُفْسِدُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَرُدُّوا النَّاسَ إِلَى زَيْغِهِمْ.

- واختلف الناس في الوقوف في القراءة عند قوله تعالى "الا الله" في الآية ( مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ )
فمنهم من قال : تم الكلام ههنا ، ثم الواو في قوله { والراسخون فِي العلم } واو الابتداء ،
وعلى هذا القول : لا يعلم المتشابه إلا الله ، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي ،
وهو المختار عند الرازي .
والقول الثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله { و الرسخون فِي العلم } وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم ، وأن الواو للعطف لما قبلها .
وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين .
- ( قلت في الفتح ) : وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به "
فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه،
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ،
ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب .

- قالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَاتِ كِتَابِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا فِيهِ قِسْمَيْنِ: مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا،
فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ" ... إِلَى قَوْلِهِ:" كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا"
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْكِتَابِ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ،
ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.
وَلَوْلَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ" وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ".
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ.انتهى
- ( قلت قوله ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) يحتاج الى مقابلة فأعقبه بقوله ( والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)
أي ولكن الراسخون في العلم لا يتبعون المتشابه ويؤمنون به والمحكم .)
فالذين في قلوبهم زيغ يقابله "العلماء "، والاتباع يقابله" الايمان " .
فثبت الوقف التام عند " الا الله " وأن المتشابه لا يعلمه الا الله وحده .
__________________________
 
  • Like
التفاعلات: yasma

yasma

Moderator
إنضم
نوفمبر 16, 2021
المشاركات
2,026
مستوى التفاعل
104
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور ابصرنا وجلاء لصدورنا وذهاب لاحزاننا وغمومنا
 
أعلى أسفل
}