هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
- قوله { هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب }
قال الرازي : ذكرنا أن من جملة شُبَه النصارى، تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : إنه روح الله وكلمته ،
فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه ، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم ، هو في غاية الحسن والاستقامة .
- (قلت ) وهنا لطيفة في وجه آخر لمناسبة ذكر الآيات المتشابهات في الكتاب ، وهي ذكر معجزات عيسى – والتي هي أيضا من آيات الله – فكأن معجزات عيسى في الاحياء وخلق الطير وغيرها هي أيضا من المتشابهات والتي ينبغي عدم اتباعها فيظن أن عيسى اله ، وينبغي ردها الى من خلق السموات والأرض وخلق عيسى نفسه وصوره في الأرحام فهو الاله الحق الواحد ).
- قال تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ )
- قال ابن كثير : يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس .
- قلت روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
( ان القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به ) ،( ذكره ابن كثير عن الحافظ ابن مردويه )
اذن فالمفهوم من الحديث ان المحكم هو ما عُرف والمتشابه ما لم يُعْرف وأن المتشابه لا يعمل به .
وأيضا من مفهوم قوله تعالى ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ )
أن المتشابه لا يُعْرف تأويله أي تفسيره وان الله مستأثر بعلمه ،
وبمفهوم المخالفة والمقابلة ، فان المحكم معروف تأويله وتفسيره .
قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ ،
أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْوُ" لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ" .
وَالْمُتَشَابِهَاتُ نَحْوُ" إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً "
يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ" وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ "
- روى البخاري في صحيحه في
كتاب التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت
تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ ، فَاحْذَرُوهُمْ )
( أخرجه مسلم في كتاب العلم- باب النهي عن اتباع متشابه القرآن )
- قال الرازي : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } وفيه سؤالان :
السؤال الأول : ما معنى كون المحكم أُمّاً للمتشابه ؟ .
الجواب : الأمّ في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء ، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات ،
وقيل : أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب ، وهو أنه قال : إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها ، فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ،
ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة ، فكان قوله { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية ، وكان قوله : عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم .
السؤال الثاني : لم قال : { أُمُّ الكتاب } ولم يقل : أمهات الكتاب؟ .
الجواب : أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ، ونظيره قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً } [ المؤمنون : 50 ] ولم يقل آيتين ، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة ، فكذلك ههنا .
ثم قال : { وَأُخَرُ متشابهات } أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث.
- ثم قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } إعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه ،
بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه ، والزيغ الميل عن الحق ، يقال : زاغ زيغاً : أي مال ميلاً ،
واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله { فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }
فقال الربيع : هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه قال : بلى . فقالوا : حسبنا . فأنزل الله هذه الآية ، ثم أنزل
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عمران : 59 ]
وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور
وقال قتادة والزجاج : هم الكفار الذين ينكرون البعث ، لأنه قال في آخر الآية { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وقال المحققون : إن هذا يعم جميع المبطلين ، وكل من احتج لباطله بالمتشابه ، لأن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه .
- واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه ، بيّن أن لهم فيه غرضين ، فالأول : هو قوله تعالى : { ابتغاء الفتنة }
والثاني : هو قوله { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } .
فأما الأول : فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر ،
وذكر المفسرون في
تفسير هذه الفتنة وجوهاً :
أولها : قال الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين ، صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة
وثانيها : أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة
وثالثها : أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه .
وأما الغرض الثاني لهم : وهو قوله تعالى : { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير ، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه ، وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه ، هذا معنى التأويل في اللغة ،
ثم يسمى التفسير تأويلاً ، قال تعالى : { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] وقال تعالى : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [
النساء : 59 ]
وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ،
واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم ؟
وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون؟.
وَمَعْنَى" ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ" طَلَبُ الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُفْسِدُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَرُدُّوا النَّاسَ إِلَى زَيْغِهِمْ.
- واختلف الناس في الوقوف في القراءة عند قوله تعالى "الا الله" في الآية ( مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ )
فمنهم من قال : تم الكلام ههنا ، ثم الواو في قوله { والراسخون فِي العلم } واو الابتداء ،
وعلى هذا القول : لا يعلم المتشابه إلا الله ، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي ،
وهو المختار عند الرازي .
والقول الثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله { و الرسخون فِي العلم } وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم ، وأن الواو للعطف لما قبلها .
وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين .
- ( قلت في الفتح ) : وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به "
فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه،
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ،
ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب .
- قالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَاتِ كِتَابِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا فِيهِ قِسْمَيْنِ: مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا،
فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ" ... إِلَى قَوْلِهِ:" كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا"
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْكِتَابِ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ،
ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.
وَلَوْلَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ" وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ".
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ.انتهى
- ( قلت قوله ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) يحتاج الى مقابلة فأعقبه بقوله ( والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)
أي ولكن الراسخون في العلم لا يتبعون المتشابه ويؤمنون به والمحكم .)
فالذين في قلوبهم زيغ يقابله "العلماء "، والاتباع يقابله"
الايمان " .
فثبت الوقف التام عند " الا الله " وأن المتشابه لا يعلمه الا الله وحده .
__________________________