تفسير سورة البقرة

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

- قال ابن كثير : يخبر الله تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ }
أي: واذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك.
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام: 165] وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل: 62].
وقال { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60] وقال { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [مريم: 59].

وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم، عليه السلام فقط، كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس ، وخالف البعض وقالوا أراد آدم،
والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }،
فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون ،
أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم، قاله القرطبي كما قوله تعالى ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )
أو أنهم قاسوهم على من سبق ...فعن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال:
كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون .

- وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين ،
وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا.
قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا } وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك،
يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك .
أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟
(قلت.في اللسان : قال الزجاج: معنى "نُقدس لك" أَي نُطهِّر أَنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أَطاعك نُقَدِّسه أَي نطهِّره ومن هذا قيل للسَّطْل القَدَس لأَنه يُتَقدَّس منه أَي يُتَطَّهر والقَدَس بالتحريك السَّطْل بلغة أَهل الحجاز لأَنه يتطهر فيه)
قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛
فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء، والصالحون .
 
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

- قال ابن كثير :
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم الله تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر الله تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا }
قلت .تأييد ابن كثير قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) الحجر و ص

- قال ابن جرير الطبري : اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة :
فقال ابن عباس : وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة، وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.
وقال آخرون : إنما علمه أسماء ذريته كلها.
وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله:"وعلم آدم الأسماء كلها" إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:"ثمّ عرَضهم على الملائكة"، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت:"عرضهن" أو"عرضها".
وقال ابن كثير : والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -:
"يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟
فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، .. ( الحديث)
كذلك قال القرطبي وصححه : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها "، قُلْتُ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا عَلَى مَا يَأْتِي، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ" كُلَّها" إِذْ هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ .
وَفِي الْحَدِيثِ (إِنَّهُ عَرَضَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: عَرَضَ الْأَسْمَاءَ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" عَرَضَهُنَّ"، فَأَعَادَ عَلَى الْأَسْمَاءِ دُونَ الْأَشْخَاصِ، لِأَنَّ الْهَاءَ وَالنُّونَ أَخَصُّ بِالْمُؤَنَّثِ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ:" عَرَضَهَا". وقال مُجَاهِدٌ: أَصْحَابُ الْأَسْمَاءِ.
قَالَ ابْنْ عَطِيَّةَ : وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ وَعَرَضَهُنَّ عَلَيْهِ مَعَ تِلْكَ الْأَجْنَاسِ بِأَشْخَاصِهَا، ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَسْمِيَاتِهَا الَّتِي قَدْ تَعَلَّمَهَا، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ قَالَ لَهُمْ: هَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا.
- قال القرطبي : قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَّمَ آدَمَ ) تَعْلِيمُهُ هُنَا إِلْهَامُ عِلْمِهِ ضَرُورَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام .
قوله ( آدَمَ ) وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ، والصحيح أنه مُشْتَقٌّ مِنْ أَدَمَةِ الْأَرْضِ وَأَدِيمِهَا وَهُوَ وَجْهُهَا، فَسُمِّيَ بِمَا خُلِقَ مِنْهُ .
- وقال القرطبي : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِاللُّغَاتِ كُلِّهَا مِنَ الْبَشَرِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لَهُ قَالَ الله تعالى:" وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها" ، وَاللُّغَاتُ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ فَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَهُ .

- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ مَأْخُوذَةٌ تَوْقِيفًا ** ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَهَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
- قوله ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ )
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك، تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، من غيرنا أم منّا، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ ،
إن كنتم صادقين في قيلكم: إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس،
فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين .

- قَوْلُهُ تَعَالَى:" سُبْحانَكَ" أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَنْ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاكَ.
وَهَذَا جَوَابُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ:" أَنْبِئُونِي" فَأَجَابُوا ، أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَلَمْ يَتَعَاطَوْا مَا لَا عِلْمَ لهم به كما يفعله الجهال منا.
و الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا أَدْرِي، اقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْفُضَلَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ..
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)
أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بَعْدَ أَنْ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بِأَنْ قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَأَسْجَدَهُمْ لَهُ وَجَعَلَهُمْ تَلَامِذَتَهُ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهُ.
و فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)
قيل: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع.
______________________

**( في معنى التوقيف ) قال ابن فارس :
لعل ظانا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد ، وليس كذلك ، بل وقف الله آدم عليه الصلاة والسلام على ما شاء أن يعلمه إياه ثم احتاج إلى علمه في زمانه فانتشر من ذلك ما شاء ، ثم علم بعد ذلك آدم من عرف من الأنبياء - صلوات الله عليهم نبيا نبيا - ما شاء أن يعلمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، فآتاه من ذلك ما لم يؤت أحدا ، ثم قر الأمر قراره ، فلا نعلم لغة من بعده حدثت . ( كتاب البحر المحيط)
-وفي معنى الوضع :
معنى كون اللغة "وضعية" أنها بألفاظها وأساليبها وضعها الإنسان، بلا توقف على تعليم الله تعالى له ذلك.
ويقابل هذا المذهب القول بأن اللغة توقيفية أي موقوفة على تعليم الله تعالى، أي إن الله تعالى علم الإنسان اللغة في أول خلقه له،
والراجح عند أكثر العلماء كون بعض اللغات توقيفية ، على الأقل لغة واحدة، ثم لا يمانعون في نشوء باقي اللغات من تلك التوقيفية بتصرف الإنسان واختراعه للمصطلحات والأساليب.
 
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَإِذْ قُلْنا ) أَيْ وَاذْكُرْ.
-في معنى السجود لآدم : قال ابن كثير :
كان سجود الملائكة لآدم ، سجود تحية وسلام وإكرام ،
كما قال تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100]
وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا،
وفي الحديث : قال معاذ : قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك،
فقال: " لا ، لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " .
الحديث رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني .
وفي بعض طرقه : " وَنَهَى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة."
ورجّحه الرازي،
وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء: 78 ]
وفي هذا التنظير نظر،
والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة لله، عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى،
وقد قوّاه الرازي في تفسيره وضعّف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف،
والآخر: أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال.

(قلت : القول الأول هو الذي ارتضيناه من التفاسير.وهو سجود تكريم قال الله تعالى:
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا *
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا
) سورة الاسراء

- وقال القرطبي : وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ خَاصًّا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَمْ كَانَ جَائِزًا بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" َرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً " [يوسف: 100]
فَكَانَ آخِرَ مَا أُبِيحَ مِنَ السُّجُودِ لِلْمَخْلُوقِينَ؟
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا لَهُ حِينَ سَجَدَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْجَمَلُ: نَحْنُ أَوْلَى بِالسُّجُودِ لَكَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ.
و قال القرطبي: وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدِ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي سَمَاعِهِمْ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ،
فَيُرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ لِجَهْلِهِ
سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْقِبْلَةِ أَمْ غَيْرِهَا جَهَالَةً مِنْهُ، ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ.

-سؤال : كيف دخل ابليس في الخطاب في قوله تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ؟

ج: دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه -وإن لم يكن من عُنْصرهم -إلا أنه كان قد تشَبَّه بهم وتوسم بأفعالهم؛
فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر.
وظن البعض أن ابليس كان من الملائكة وهذا غير صحيح قال تعالى
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف: 50 ].
قال ابن عباس : كان إبليس من خُزّان الجنة وكان يدير أمر السماء الدنيا - ذكره ابن الجوزي .

-تفسير قوله تعالى عن ابليس ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
قال الله تعالى على لسان ابليس :
" لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ" [الحجر: 33]
فَكَفَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ. فَكُلُّ مَنْ سَفَّهَ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكانَ ) قِيلَ: " كَانَ " هُنَا بِمَعْنَى صَارَ .
وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ." كَانَ" هُنَا بِمَعْنَى "صَارَ" خَطَأٌ ، تَرُدُّهُ الْأُصُولُ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمَعْنَى أَيْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَكْفُرُ،
لِأَنَّ الْكَافِرَ حَقِيقَةً وَالْمُؤْمِنَ حَقِيقَةً هُوَ الَّذِي قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الْمُوَافَاةَ .
قال القرطبي : وَهَذَا صَحِيحٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: (وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ).
 
mahlawy قال:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَإِذْ قُلْنا ) أَيْ وَاذْكُرْ.
-في معنى السجود لآدم : قال ابن كثير :
كان سجود الملائكة لآدم ، سجود تحية وسلام وإكرام ،
كما قال تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [ يوسف : 100]
وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا،
وفي الحديث : قال معاذ : قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك،
فقال: " لا ، لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " .
الحديث رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني .
وفي بعض طرقه : " وَنَهَى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة."
ورجّحه الرازي،
وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال: { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء: 78 ]
وفي هذا التنظير نظر،
والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة لله، عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى،
وقد قوّاه الرازي في تفسيره وضعّف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف،
والآخر: أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال.

(قلت : القول الأول هو الذي ارتضيناه من التفاسير.وهو سجود تكريم قال الله تعالى:
( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا *
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا
) سورة الاسراء

- وقال القرطبي : وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُودُ خَاصًّا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، أَمْ كَانَ جَائِزًا بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" َرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً " [يوسف: 100]
فَكَانَ آخِرَ مَا أُبِيحَ مِنَ السُّجُودِ لِلْمَخْلُوقِينَ؟
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ قَالُوا لَهُ حِينَ سَجَدَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْجَمَلُ: نَحْنُ أَوْلَى بِالسُّجُودِ لَكَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ.
و قال القرطبي: وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدِ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي سَمَاعِهِمْ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ،
فَيُرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ لِجَهْلِهِ
سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْقِبْلَةِ أَمْ غَيْرِهَا جَهَالَةً مِنْهُ، ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ.

-سؤال : كيف دخل ابليس في الخطاب في قوله تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ؟

ج: دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه -وإن لم يكن من عُنْصرهم -إلا أنه كان قد تشَبَّه بهم وتوسم بأفعالهم؛
فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر.
وظن البعض أن ابليس كان من الملائكة وهذا غير صحيح قال تعالى
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف: 50 ].
قال ابن عباس : كان إبليس من خُزّان الجنة وكان يدير أمر السماء الدنيا - ذكره ابن الجوزي .

-تفسير قوله تعالى عن ابليس ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
قال الله تعالى على لسان ابليس :
" لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ" [الحجر: 33]
فَكَفَّرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ. فَكُلُّ مَنْ سَفَّهَ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ .
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكانَ ) قِيلَ: " كَانَ " هُنَا بِمَعْنَى صَارَ .
وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ." كَانَ" هُنَا بِمَعْنَى "صَارَ" خَطَأٌ ، تَرُدُّهُ الْأُصُولُ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمَعْنَى أَيْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَكْفُرُ،
لِأَنَّ الْكَافِرَ حَقِيقَةً وَالْمُؤْمِنَ حَقِيقَةً هُوَ الَّذِي قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الْمُوَافَاةَ .
قال القرطبي : وَهَذَا صَحِيحٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: (وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ).

 
الآيات 35- 37
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
..

- قوله ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) أي اتَّخِذْهَا مَسْكَنًا، وَهُوَ مَحَلُّ السُّكُونِ.

وَالسَّكَنِ: كُلُّ مَا سُكِنَ إِلَيْهِ. وَالسِّكِّينُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَكِّنُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ، وَمِنْهُ الْمِسْكِينُ لِقِلَّةِ تَصَرُّفِهِ وَحَرَكَتِهِ
قال القرطبي : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " اسْكُنْ " تَنْبِيهٌ عَلَى الْخُرُوجِ، لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَكُونُ مِلْكًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: السُّكْنَى تَكُونُ إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ تَنْقَطِعُ، فَدُخُولُهُمَا فِي الْجَنَّةِ كَانَ دُخُولَ سُكْنَى لَا دُخُولَ إِقَامَةٍ .
وَإِذَا كَانَ هَذَا فَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ أَسْكَنَ رَجُلًا مَسْكَنًا لَهُ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالسُّكْنَى، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِسْكَانِ.
- زوجه : حوّاء ، أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل زوج ويجمعونها الازواج وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون زوجة ويجمعونها زوجات ،

كيف خلقت حواء ؟
قال الله تعالى في سورة النساء
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )
وقال في الأعراف
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ).
نفس واحدة أي آدم عليه السلام وخلق الله زوجه حواء من آدم
كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ
) .
ومن أجل ذلك سميت حواء يعني خلقت من حي .

- وفي الجنة التي أسكنها آدم ،
قال ابن الجوزي فيها :
أحدهما :جنة عدن . والثاني : جنة الخلْد ( جنة الثواب في السماء )
قال القرطبي أنها جنّة الخلد وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي جَنَّةٍ بِأَرْضِ عَدْنٍ .

وقال الرازي : قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ الْجَنَّةِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَعْهُودَةُ الْمَعْلُومَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَيْهَا

- والرغد الرزق الواسع الكثير يقال أرغد فلان إذا صار في خصب وسعة

- قوله تعالى { ولا تقربا هذه الشجرة } أي بالأكل لا بالدنو منها .
- تفصيل دخول آدم الجنة وخروجه منها سيأتي في سورة الأعراف :
قلت :
لما خلق الله آدم وأسجد له الملائكة الا ابليس أبي واستكبر وكان من الكافرين ، فطرده الله من رحمته ومن الجنة لكنه ظل في السماء الدنيا.
ثم أسكن الله آدم وحواء الجنة وحذرهما من أكل شجرة بعينها ومن وساوس عدوهما الشيطان ، فوقف ابليس على باب الجنة وراح ينادي على آدم وحواء ويخبرهما
أن الشجرة المنهي عنها هي شجرة الخلد ونصحهما ابليس بأن يأكلان منها فيكونا من الخالدين فلا يموتا وأقسم ابليس على نصيحته ،
ولما كان الانسان خلق ضعيفا استطاع ابليس غوايته فعصى آدم ربه
فكان جزاؤه خروجه من الجنة واهباطه للأرض لتكون مستقرا له ولبنيه حتى يوم البعث ،
وهبط معه الشيطان الى الأرض ، ولتكرر قصتهما مع بني آدم ،
بين غواية ومعصية وتوبة الى أن يرث الله الأرض فتنصب موازين الأعمال فاما الى الجنة أو النار .
هذا هو ملخص قصة هبوط آدم والشيطان الى الأرض
وتفسيرها مشحون بالاسرائيليات وماجاء في التوراة مثل دخول ابليس في فم الحية حيلة للدخول الى الجنة لاغواء آدم ،

ولا ندري أحق أم كذب ؟
 
أزلّهما بمعنى استزلهما من الزلل .
زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه ،
وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه.
وقرأ حمزة فأزالهما أي آدم وحواء ، أراد نحاهما عن الجنة .

وأخرجهما مما كانا فيه من نعيم وطيب عيش ولباس .

- و الهبوط بضم الهاء الانحدار من علو .
- وفي الهبوط الى الأرض ومكانه ، أخبار اسرائيلية نعرض عنها .

- وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها " .
- ( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ) قال الطبري : والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار .
(وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك.
عن الربيع: " إلى حين "، قال: إلى أجل .
( قلت . وجعل الله الأجل مجهولا وهو وقت انقطاع الدنيا ويوم الحساب )
- وقال فخر الدين الرازي :
اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي ، أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي،

قال الشاعر:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهد ...
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان ونيل فوز العابد ...

أنسيت ربك حين أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد ...
قوله( فتلقى آدم من ربه كلمات )
قيل: إن هذه الكلمات التي تلقاها آدم مفسرة بقوله تعالى: { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] روي هذا عن مجاهد ، وأبي العالية .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتابَ عَلَيْهِ) أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، أَوْ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ .
وَتَابَ الْعَبْدُ: رَجَعَ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِ. وَعَبْدٌ تَوَّابٌ: كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ
وَأَصْلُ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ ،يُقَالُ: تَابَ وثاب وآب وأناب: رجع.

- وقوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي: إنه يتوب على من تاب إليه وأناب،

كقوله: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة: 104]
وقوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء : 11]،

وقوله: { وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [ الفرقان : 71 ]
وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم.
 
قلت. للرد على رأي المعتزلة بأنها جنة في الأرض وهو نفس رأي محمد هداية ، قوله تعالى في سورة طه ( ولاتضحى) وقوله( ولاتعرى) وهما صفتان خاصة بجنة الخلد ليس لهما مثيل في جنان الأرض فقد لا يجوع ولا يعطش في جنات الأرض لكن أبدا لا يقيهما الضحى وظهور الشمس أو يقيهما العري ويكسبانهما الكسوة .
 
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

- قوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْنَا اهْبِطُوا)
كَرَّرَ الْأَمْرَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ وَتَأْكِيدِهِ، كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ: قُمْ قُمْ.
وقيل : كَرَّرَ الْأَمْرَ لَمَّا عَلَّقَ بِكُلِ أَمْرِ مِنْهُمَا حُكْمًا غَيْرَ حُكْمِ الْآخَرِ فَعَلَّقَ بِالْأَوَّلِ الْعَدَاوَةَ وَبِالثَّانِي إِتْيَانَ الْهُدَى.
وقيل : الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ.

يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية :
أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية: الهدى ،الأنبياء والرسل والبيان.

{فمن تبع هداي} أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل {فلا خوف عليهم} أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمور الدنيا
الْخَوْفُ هُوَ الذُّعْرُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَالْحُزْنُ وَالْحَزَنُ: ضِدُّ السُّرُورِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَاضٍ.
هذا في منازل الآخرة ،حيث لا خوف من عذاب القبر أو عذاب في جهنم .
ولا حزن على آلام ماضي الدنيا حيث الحاضر هو نعيم الجنة
،يزول كل حزن ماضي .

___________________________
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال
أحدها آيات الكتب التي تتلى ، والثاني معجزات الأنبياء
والثالث القرآن ، والرابع دلائل الله في مصنوعاته ومخلوقاته .
والصحيح أنها تشمل كل ذلك .
- وأصحاب النار أي سكانها . سموا أصحابا لصحتبهم إياها بالملازمة
 
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)


قال ابن كثير :
- يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام،
ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب، عليه السلام " ابن اسحاق بن ابراهيم عليهما السلام " .
وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابن الشجاع، بارز الأبطال، يا ابن العالم، اطلب العلم ونحو ذلك.

- وعند القرطبي : ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي" دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ:
خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ذَوُو اسْمَيْنِ ، مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ ، وَإِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ ، وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ ، وَإِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ

وقوله تعالى: { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }
قال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب.
قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: { يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 20] يعني في زمانهم.
.
- و الذِّكْرُ ضد النسيان والغفلة .
- وقوله { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } قال: بعهدي الذي أخذت في أَعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم.
{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي: أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم.
وقيل : عهده إلى عباده: دينه الإسلام أن يتبعوه.
وعن ابن عباس: { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال: أرْض عنكم وأدخلكم الجنة.
وقوله: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي: فاخشون .
قال القرطبي : أَيْ خَافُونِ. وَالرُّهْبُ وَالرَّهَبُ وَالرَّهْبَةُ الْخَوْفُ. وَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِهِ مَعْنَى التَّهْدِيدِ.
_____
- { وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }
بما أنزلت أي بالذي أنزلت وهو القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يجدونه عندهم في التوراة والانجيل .
- ( وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) الهاء هنا عائد على القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم .
وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان .
وأما قوله: ( أَوَّلَ كَافِرٍ )
فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير،
وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة،
فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم .

وقوله: { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا }
وإن آياته: كتابه الذي أنزله إليهم ،
وإن الثمن القليل: الدنيا وشهواتها .
يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية .
وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب،
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة"
( صححه الألباني في الجامع )
- ( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ )
أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.
والتقوى ، أن تترك معصية الله مخافة عذاب الله .
 

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

- قال القرطبي :
قوله تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ،
قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، أَيْ لَا تُغَطُّوا الحقَّ بغطاء الباطل.
وقيل خلط الحق بالباطل فيجعل الحق غير واضح ، اللَّبْسُ: الْخَلْطُ ، لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ أَلْبِسْهُ، إِذَا مَزَجْتُ بَيِّنَهُ بِمُشْكِلِهِ وَحَقَّهُ بِبَاطِلِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ" [الانعام: 9].
"وَفِي الْأَمْرِ لُبْسَةٌ " أَيْ لَيْسَ بِوَاضِحٍ.
وَاللَّبُوسُ: كُلُّ مَا يُلْبَسُ مِنْ ثِيَابٍ وَدِرْعٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ" [الأنبياء: 80].
- قَوْلُهُ تَعَالَى" بِالْباطِلِ"
الْبَاطِلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافُ الْحَقِّ وَمَعْنَاهُ الزَّائِلُ
قال لبيد: ألا كل شي مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ
وَيُقَالُ ذَهَبَ دَمُهُ بُطْلًا أَيْ هَدَرًا ،
وَالْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ . وَالْبَطَلُ أي الشُّجَاعُ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ شَجَاعَةَ صَاحِبِهِ.
- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ" الْحَقَّ بِالْباطِلِ"
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَخْلِطُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْحَقِّ فِي الْكِتَابِ، بِالْبَاطِلِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدٌ مَبْعُوثٌ وَلَكِنْ إِلَى غَيْرِنَا فَإِقْرَارُهُمْ بِبَعْثِهِ حَقٌّ وَجَحْدُهُمْ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِمْ بَاطِلٌ.
- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي كِتْمَانَهُمْ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ.
يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم "


__________________________________

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

- (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوُجُوبُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ،
(وَآتُوا الزَّكاةَ) أَمْرٌ أَيْضًا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَالْإِيتَاءُ الْإِعْطَاءُ. آتَيْتُهُ: أَعْطَيْتُهُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ" [التوبة: 75] أي لئن أعطانا من فضله .
وَأَتَيْتُهُ- بِالْقَصْرِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ- جِئْتُهُ .
فَإِذَا كَانَ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ مُدَّ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ) .

- "الزَّكَاةُ" مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَكَا الشَّيْءُ إِذَا نَمَا وَزَادَ ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ وَالْمَالُ يَزْكُو إِذَا كَثُرَ وَزَادَ.
وَسُمِّيَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمَالِ زَكَاةً وَهُوَ نَقْصٌ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ يَنْمُو بِالْبَرَكَةِ أَوْ بِالْأَجْرِ الَّذِي يُثَابُ بِهِ الْمُزَكِّي .
وَقِيلَ: الزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّطْهِيرِ .
قَالَ تَعَالَى" خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها " .
فَكَأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْمَالِ يُطَهِّرُهُ مِنْ تَبِعَةِ الْحَقِّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ لِلْمَسَاكِينِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى مَا يَخْرُجُ مِنَ الزَّكَاةِ ، أَوْسَاخَ النَّاسِ .
- الْمُرَادِ بِالزَّكَاةِ هُنَا : الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ لِمُقَارَنَتِهَا بِالصَّلَاةِ .
وَالزَّكَاةُ فِي الْكِتَابِ مُجْمَلَةٌ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَارْكَعُوا)
الرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ الِانْحِنَاءُ بِالشَّخْصِ ، وَكُلُّ مُنْحَنٍ رَاكِعٌ .
- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ الرُّكُوعِ بِالذِّكْرِ ،
قِيلَ إِنَّمَا خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِمْ رُكُوعٌ .
وقيل: لأنه كان أثقل عل الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ أَظُنُّهُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَلَّا أَخِرَّ إِلَّا قَائِمًا.
فَمِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَلَّا أَرْكَعَ فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قَلْبِهِ اطْمَأَنَّتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ وَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الرُّكُوعِ .

- الرُّكُوعُ الشَّرْعِيُّ هُوَ أَنْ يَحْنِيَ الرَّجُلُ صُلْبَهُ وَيَمُدَّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَيَفْتَحَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَيَقْبِضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمَ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: ( مَعَ الرَّاكِعِينَ )
" مَعَ" تَقْتَضِي الْمَعِيَّةَ وَالْجَمْعِيَّةَ وَلِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِالْقُرْآنِ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَقْتَضِ شُهُودَ الْجَمَاعَةِ فَأَمَرَهُمْ بِقَوْلِهِ" مَعَ" شُهُودِ الْجَمَاعَةِ ،
- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شُهُودِ الْجَمَاعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَدْمَنَ التَّخَلُّفَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ الْعُقُوبَةُ.
وَقَدْ أَوْجَبَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ،
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْتَمَعَ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا مِنَ الْجَمَاعَاتِ فَإِذَا قَامَتِ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فِي بَيْتِهِ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أفضل من صلاة الفذ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً)
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أُرَخِّصُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ فِي تَرْكِ إِتْيَانِهَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ .
( قلت ) ويجوز تأويل قوله تعالى ( مع الراكعين ) أي مع المسلمين ،
على قول من قال ان صلاة اهل الكتاب ليس فيها ركوع .


_________________________________

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)


- يقول الله تعالى: كيف يليق بكم - يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟
أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم.
و عن قتادة : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله، عز وجل .

- و عن ابن عباس في هذه الآية، يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم.

- و عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى ،
فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟
فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ.)
وَالْأَقْتَابُ : الْأَمْعَاءُ وَاحِدُهَا قِتْبٌ.
وَمَعْنَى" فَتَنْدَلِقُ": فَتَخْرُجُ بِسُرْعَةٍ.
رواه مسلم .

- قال ابن كثير :
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له،
فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم،

كما قال شعيب، عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88].
فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله ، واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف،
وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه،
[قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول له:
لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر.
وقال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟]
 

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)


- قال ابن كثير :
يقول الله تعالى آمرًا عبيده، فيما يُؤمّلون من خير الدنيا والآخرة، بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة.

فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد.
[قال القرطبي وغيره: ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث] .

وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها: فعل الصلاة.
و عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: الصبر صبران:
صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله.

وقال أبو العالية في قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله.

- وأما قوله: { وَالصَّلاةِ } فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } الآية [العنكبوت: 45].

- والضمير في قوله: { وَإِنَّهَا } عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير.
ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام، وهو الوصية بالاستعانة بالصبر والصلاة .
- ( وعن حذيفة يعني ابن اليمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى . )
حزبه : أي ألم به .
( رواه احمد وابو داود وحسّنه الألباني )
- { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي: مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين الخاضعين لطاعته، الخائفين سَطَواته، المصدقين بوعده ووعيده.
وهذا يشبه ما جاء في الحديث: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه" .
- وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم، ولغيرهم. والله أعلم.

- وقوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هذا تعريف بالخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه،
وأنهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات.
- فأما قوله: ( يَظُنُّونَ )
قال ابن جرير، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنًا.
ومنه قول الله تعالى: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53].
و عن أبي العالية، في قوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال: الظن هاهنا يقين .

و قالوا : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 20] يقول: علمت.
 

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)


يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فَضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الدخان: 32]، وكقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [المائدة: 20].

وقال ابو العالية، في قوله تعالى: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالما.
ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا، حكاه فخر الدين الرازي .
وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره، وفيه نظر؛
لأن { الْعَالَمِينَ } عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين .
- (قلت )

وقوله (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا )
يعني فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ وَالْعَمَلِ .
اذن ، فالتفضيل اما ان يكون في شيء خاص وليس مطلقا ،
مثل الرزق أو الملك و في الدنيا . أو كثرة الأنبياء ، ويبقى تفضيل الآخرة أكبر تفضيلا .
أو أن يكون التفضيل على عالم زمان الفاضل ، وعليه يحمل تفضيل أمة بني اسرائيل .
 

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)


- لما ذكرهم الله تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول نقمه بهم يوم القيامة ،فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهبا .
- وَمَعْنَى" لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً":
أَيْ لَا تُؤَاخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ أُخْرَى وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا شَيْئًا ،
تَقُولُ جَزَى عَنِّي هَذَا الْأَمْرُ يَجْزِي كَمَا تَقُولُ قَضَى عَنِّي ،وَاجْتَزَأْتُ بِالشَّيْءِ اجْتِزَاءً إِذَا اكْتَفَيْتُ بِهِ . فَمَعْنَى لَا تَجْزِي: لَا تَقْضِي وَلَا تُغْنِي .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ)
الشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ وَهُمَا الِاثْنَانِ ، تَقُولُ كَانَ وَتْرًا فَشَفَعْتُهُ شَفْعًا
وَالشُّفْعَةُ مِنْهُ لِأَنَّكَ تَضُمُّ مِلْكَ شَرِيكِكَ إِلَى مِلْكِكَ.
وَالشَّفِيعُ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ وَصَاحِبُ الشَّفَاعَةِ .
وَنَاقَةٌ شَافِعٌ إِذَا اجْتَمَعَ لَهَا حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا .
قال القرطبي : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ ،
وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَخَلَّدُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ فِي الْعَذَابِ.
وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أُمَمِ النَّبِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ تَنَالُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
ويُردّ عَلَيْهِمْ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ فِي الْمَعْنَى.
وَالثَّانِي الْإِجْمَاعُ مِنَ السَّلَفِ عَلَى تَلَقِّي هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِالْقَبُولِ وَقَبُولُهُمْ لَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى صِحَّةِ عَقِيدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَفَسَادِ دِينِ الْمُعْتَزِلَةِ ،
فَإِنْ قَالُوا قَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ بِمَا يُوجِبُ رَدَّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِثْلُ قَوْلِهِ" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ" [غافر: 18]. قَالُوا: وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ ظَالِمُونَ. وَقَالَ:" مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ" [النساء: 123] " وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ" [البقرة: 48]
قُلْنَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَامَّةً فِي كُلِّ ظَالِمٍ وَالْعُمُومُ لَا صِيغَةَ لَهُ فَلَا تَعُمُّ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا وَكُلَّ نَفْسٍ ،
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْكَافِرُونَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ ،
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ شَفَاعَةً لِأَقْوَامٍ وَنَفَاهَا عَنْ أَقْوَامٍ فَقَالَ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ" فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ" [المدثر: 48] وقال" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " [الأنبياء: 28]
وَقَالَ" وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" [سبأ: 23].
و قَوْلِهِ" لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً " [مريم 87].
فَعَلِمْنَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ ،
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ"
النَّفْسُ الْكَافِرَةُ لَا كُلُّ نَفْسٍ.

قلت. قيل بعضهم أن الشفاعة في المؤمنين المذنبين تكون قبل حسابهم وقبل دخولهم الى النار وليس بعد دخولها فاذا دخلوها لم يخرجوا والدليل قوله تعالى (وَإِذۡ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا نَصِيبٗا مِّنَ ٱلنَّارِ ٤٧ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُلّٞ فِيهَآ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ حَكَمَ ‌بَيۡنَ ‌ٱلۡعِبَادِ) والشاهد قوله (إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ حَكَمَ ‌بَيۡنَ ‌ٱلۡعِبَادِ).

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أَيْ فِدَاءٌ
وَالْعَدْلُ الْفِدَاءُ والبَدَلُ ، والعِدْلٌ الْمِثْلُ ، وَالعَدِيلٌ اِلَّذِي يُمَاثِلُكَ فِي الْوَزْنِ وَالْقَدْرِ ،
وَيُقَالُ عَدْلُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسَاوِيهِ قِيمَةً وَقَدْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ وَالْعِدْلُ (بِالْكَسْرِ) هُوَ الَّذِي يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي مادته .
- (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ لا أحد يعينهم .
وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ ، وَالْأَنْصَارُ الْأَعْوَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ" [آل عمران: 52]
- وكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذَكَرُوا ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ وَسَيَشْفَعُ لَنَا آبَاؤُنَا ،
فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ قيه الشَّفَاعَاتُ وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ فِدْيَةٌ.
وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّفَاعَةَ وَالْفِدْيَةَ وَالنَّصْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي اعْتَادَهَا بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ فِي الشِّدَّةِ لَا يَتَخَلَّصُ إِلَّا بِأَنْ يشفع له أو ينصر أو يفتدي.

- روى مسلم في صحيحه : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ »
- النهي عن الشفاعة للكافرين هي المغفرة العامة والنجاة من النار ،
أما الشفاعة في تخفيف العذاب عن الكافرين فهو جائز ،
كما جاء في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب ، روى البخاري في صحيحه :
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : قال للنبي صلى الله عليه و سلم ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟
قال ( هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )
أخرجه مسلم في الإيمان باب شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم لأبي طالب .

قال الحافظ ابن حجر : المقام المحمود هو الشفاعة العظمى التي اختص بها وهي إراحة أهل الموقف من أهوال القضاء بينهم والفراغ من حسابهم .
 
  • Like
التفاعلات: yasma
جزاك الله خير يا رب وجعلك من اهل القرآن ?❤️
 
  • Like
التفاعلات: Admin

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
..

قال ابن كثير:
يقول الله تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم "إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ" أي: خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى، عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب.
معنى" نجيناكم" ، ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمي كل فائز ناجيا. فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة، ذكره القرطبي .
(قلت . في اللغة:أصل السّوم العرض ومنه المساومة وفي الحديث نهى أَن يَسومَ الرجلُ على سَومِ أَخيه ، فاذا عرضوا العذاب عليهم كانت الإذاقة والتّولية ) .
وذلك أن فرعون -لعنه الله-كان قد رأى رؤيا هالته، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل،
ويقال: بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفُتُون، كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] إن شاء الله، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله-بقتل كل ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها.
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ }
ومعنى { يَسُومُونَكُمْ } أي: يولونكم،
وقيل: معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي،
وإنما قال هاهنا: { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ }
ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }
- وقوله تعالى ( ويستحيون نساءكم ) أي يستبقون نساءكم أي بناتكم وإنما استبقوا نساءهم للاستذلال والخدمة ، قاله ابن الجوزي،
قلت .وفي لسان العرب : استحياه أي أبقاه حيّاً ولم يقتله .
- قوله (آلِ فِرْعَوْنَ ) "فرعون " علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر، كافرًا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا،
وكسرى لكل من ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا ،والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند،
ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى، عليه السلام، الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، أيا ما كان فعليه لعنة الله،
[وكان من سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر] .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: "وَكُلُّ عَاتٍ فِرْعَوْنُ ، وَالْعُتَاةُ الْفَرَاعِنَةُ ، ذُو فَرْعَنَةٍ أَيْ دَهَاءٍ وَنُكْرٍ".

وآل فرعون: أي قومه وأتباعه وأهل دينه. وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه .
وقالت طائفة من أهل العلم :الأهل معلوم والآل الأتباع ، والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبد الله بن أبي أوفى" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال (اللهم صل عليهم) فأتاه أبي بصدقته فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى) ،ذكره القرطبي .

- وقوله تعالى: { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ }
وقال مجاهد: ( بَلاءٌ ) قال: نعمة من ربكم عظيمة.
وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر،
كما قال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 25] ،
وقال: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168].
وقال الجمهور: الإشارة هنا إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان .

- نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ أي الذبح إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِأَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ لِتَوَلِّيهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلِيُعْلِمَ أَنَّ الْمُبَاشِرَ مَأْخُوذٌ بِفِعْلِهِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَيَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَمَرَهُ ظَالِمٌ بِقَتْلِ أَحَدٍ فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
يُقْتَلَانِ جَمِيعًا هَذَا بِأَمْرِهِ وَالْمَأْمُورُ بِمُبَاشَرَتِهِ هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي تَفْصِيلٍ لَهُمَا
.
و الْقَوْلُ الثَّانِي لَا يُقْتَلُ الْآمِرُ وَلَكِنْ تَقْطَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يُعَاقَبُ وَيُحْبَسُ وَيُقْتَلُ الْمَأْمُورُ للمباشرة.
و الْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ،وَرَأَى أَنَّ الْآمِرَ وَالْمُبَاشِرَ لَيْسَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا فِي الْقَوَدِ فَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

- ذكر ابن الجوزي : وفي آل فرعون ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل مصر قاله مقاتل .
والثاني: أهل بيته خاصة قاله أبو عبيدة .
والثالث :أتباعه على دينه قاله الزجاج
.
 

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)


- قوله تعالى " فَرَقْنَا" أي فَلَقْنَا ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَأَصْلُ الْفَرْقِ الْفَصْلُ وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ ،
وَمِنْهُ الْفُرْقَانُ لِأَنَّهُ يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ يَفْصِلُ .
وَمِنْهُ" فَالْفارِقاتِ فَرْقاً" [المرسلات: 4] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
ومنه" يَوْمَ الْفُرْقانِ" [الأنفال: 41] يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ الحق والباطل .
- وَمَعْنَى" بِكُمُ" أَيْ لَكُمْ ، فَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ ،
وَقِيلَ أَيْ فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ ، أَيْ صَارُوا بَيْنَ الْمَاءَيْنِ فَصَارَ الْفَرْقُ بِهِمْ وَهَذَا أولى يبينه" فَانْفَلَقَ"

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْبَحْرَ) الْبَحْرُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّسَاعِهِ.
وَيُقَالُ: فَرَسٌ بَحْرٌ إِذَا كَانَ وَاسِعَ الْجَرْيِ أَيْ كَثِيرُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْدُوبٍ فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ (وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا)
وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمَلِحُ .

-قوله تعالى (فَأَنْجَيْنَاكُمْ) وفي الآية التي قبلها قال (نَجَّيْناكُمْ) فما الفرق بين اللفظين ؟
الفرق بين أفْعل وفعّل ، مثل أكْرم وكرّم ، بتشديد العين تفيد التكثير و المبالغة ، ومثل أعلم وعلّم ، قد تكون للتفرقة بين طول زمن الفعل أو قصره .
فقوله تعالى( أنجاكم ) تفيد الاسراع ، مثل نجاة ابراهيم من النار، في سورة ابراهيم قال
( وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ ‌أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ ) الآية 6 .
أمّا (نجيناكم) تفيد طول زمن الفعل .
ومثل قوله في نوح عليه السلام (فَكَذَّبُوهُ ‌فَنَجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ) يونس 73 ناسب اختيار نجينا والتي تفيد طول الوقت سياق الآيات والقصة حيث لم يهلك الله قوم نوح على الفور بل مكثوا قرابة ألف عام حتى أغرقهم ونجاه نوح من أذاهم وماقبلها في قوله (يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ )يونس 71 .

ثم جاء الله بلفظ (فَأَنجَيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ) في سورة الشعراء يفيد الاسراع ليناسب سياق الآيات ، حيث لما هدد قوم نوح برجم النبي نوح ومن معه ، وقيام نوح بدعاء ربه واستغاثه فلابد أن يأتي الرد السريع على دعاء نوح ، تقول الآيات (قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمَرۡجُومِينَ ١١٦ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِي كَذَّبُونِ ١١٧ فَٱفۡتَحۡ بَيۡنِي وَبَيۡنَهُمۡ فَتۡحٗا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١١٨ ‌فَأَنجَيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ ١١٩)
ولذكر ما سبق ، ناسب في هذه الآية أن يأتي بلفظ (فَأَنْجَيْنَاكُمْ) ذكر البحر وقوله " وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ" فهاهنا موقف لا يحتمل الابطاء وتطويل زمن الفعل والنجاة فجاء بصيغة الاسراع.

- وقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}
قال الرازي : هذا هو النعمة الثانية .
وقال ابن كثير : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر ، "فأنجيناكم" أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.
وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء:
عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء،
فقال: " ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ ".
قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم ، فصامه موسى، عليه السلام،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أحق بموسى منكم ".
فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه.
حديث متفق عليه .

- ( قلت ) قال الله تعالى في سورة الشعراء :
( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ *
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

-وقلت :قال المفسرون في مسألة حلي آل فرعون ،
الأول : " ان قوم بني اسرائيل اسْتَعَارُوهُ من القبط حِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَوْهَمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي عِيدٍ لَهُمْ أَوْ وَلِيمَةٍ " .
وهذا غير مقبول ، فهو لا يليق بخلق الأنبياء واستحالة حدوثه ، وأيضا كيف يجتمع جمع كبير من نساء بين اسرائيل على استعارة الحلي من نساء آل فرعون على ما كان بينهم من شقاق وعداء وكيف لم ينتبه قوم فرعون الى تلك الحيلة قال تعالى " إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا ‌شِيَعٗا " ، وقال أيضا (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ ‌عَدُوِّهِۦ ) القصص .

الثاني : هُوَ أن مَا أَخَذُه بني اسرائيل مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، كان حين لَمَّا قَذَفَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ وأغرقوا في البحر كان معهم زينتهم من الذهب وغيرها ،
ولكن لم يحلّ الله لهم الغنائم كما أحلّها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ،
فشعر بني اسرائيل بالاثم حين أخذوها من جثث ومتاع آل فرعون المغرقين فقذفوها في النار ثم أخرج منها السامري العجل الذي عبدوه .
قال تعالى (فَأَخۡرَجۡنَٰهُم مِّن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ وَكُنُوزٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ كَذَٰلِكَۖ ‌وَأَوۡرَثۡنَٰهَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) الشعراء 57-59
 

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)


قال القرطبي :

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو" وَعَدْنَا " بِغَيْرِ أَلِفٍ،
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَرَجَّحَهُ وَأَنْكَرَ" واعَدْنا" ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ فَأَمَّا الله عز وجل فَإِنَّمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
قَالَ مَكِّيٌّ: الْمُوَاعَدَةُ أَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَةُ مِنْ وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ،
قَالُوا: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَدَاوَيْتُ الْعَلِيلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَالْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ. فَيَكُونُ لَفْظُ الْمُوَاعَدَةِ مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً لِمُوسَى كَمَعْنَى وَعَدْنَا، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
قالَ النَّحَّاسُ: وَقِرَاءَةُ" واعَدْنا" بِالْأَلِفِ أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَالْأَعْرَجِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ .
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ:" واعَدْنا" هَا هُنَا بِالْأَلِفِ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله عز وجل وَعْدٌ، وَمِنْ مُوسَى قَبُولٌ وَاتِّبَاعٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمُوَاعَدَةِ.
و قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَرَجَّحَ أَبُو عُبَيْدَةَ" وَعَدْنَا" وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَبُولَ مُوسَى لِوَعْدِ الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.


2- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُوسى) مُوسَى اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ.
وَالْقِبْطُ عَلَى- مَا يُرْوَى- يَقُولُونَ لِلْمَاءِ: مُو، وَلِلشَّجَرِ: شَا . فَلَمَّا وُجِدَ مُوسَى فِي التَّابُوتِ عِنْدَ مَاءٍ وَشَجَرٍ سُمِّيَ مُوسَى.
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ- كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا- فَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ فَوَجَدْنَهُ، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمُوسَى هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ ابن لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .


3- أما قوْلُهُ تَعَالَى:" أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" .
وَالْأَرْبَعُونَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشَرَةٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ ،
وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جاوز البحر وسأل قَوْمُهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَخَرَجَ إِلَى الطُّورِ فِي سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَصَعِدُوا الْجَبَلَ وَوَاعَدَهُمْ إِلَى تَمَامِ أربعين ليلة فعدّوا فيما ذكر المفسرين عِشْرِينَ يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَقَالُوا قَدْ أَخْلَفَنَا مَوْعِدَهُ.
فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَاطْمَأَنُّوا إِلَى قَوْلِهِ وَنَهَاهُمْ هَارُونُ وَقَالَ" يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى " (طه: 90).

فَلَمْ يَتَّبِعْ هَارُونَ وَلَمْ يُطِعْهُ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ. وَتَهَافَتَ فِي عِبَادَتِهِ سَائِرُهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَوَجَدَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَرُفِعَ مِنْ جُمْلَتِهَا سِتَّةُ أَجْزَاءٍ وَبَقِيَ جُزْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَمَا يَحْتَاجُونَ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ فَشَرِبُوا مِنْ مَائِهِ حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة
وَوَرِمَتْ بُطُونُهُمْ فَتَابُوا وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ دُونَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" [البقرة: 54]
فَقَامُوا بِالْخَنَاجِرِ وَالسُّيُوفِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَسْأَلُ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ وَلَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ كُلُّ مَنَ اسْتَقْبَلَهُ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ وَضَرَبَهُ الْآخَرُ بِمِثْلِهِ حَتَّى عَجَّ مُوسَى إِلَى اللَّهِ صَارِخًا: يَا رَبَّاهُ قَدْ فَنِيَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ!
فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَادَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ فَقَبِلَ تَوْبَةَ مَنْ بَقِيَ وَجَعَلَ مَنْ قُتِلَ فِي الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي
.

(4) إِنْ قِيلَ لِمَ خَصَّ اللَّيَالِي بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَيَّامِ؟
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ اللَّيْلَةَ أَسْبَقُ مِنَ الْيَوْمِ فَهِيَ قَبْلَهُ فِي الرُّتْبَةِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ بِهَا التَّارِيخُ فَاللَّيَالِي أَوَّلُ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامُ تَبَعٌ لَهَا.
(5) قَوْلُهُ تَعَالَى: ( ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ) أَيِ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مُوسَى .

(6) قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ)
العفو: عفو الله عز وجل عَنْ خَلْقِهِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ وَقَبْلَهَا ،
بِخِلَافِ الْغُفْرَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ عُقُوبَةٌ الْبَتَّةَ.
وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً فَتُرِكَتْ لَهُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ ، فَالْعَفْوُ: مَحْوُ الذَّنْبِ أَيْ مَحَوْنَا ذُنُوبَكُمْ وَتَجَاوَزْنَا عَنْكُمْ ،
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ أَيْ أَذْهَبَتْهُ .وَعَفَا الشَّيْءُ : كَثُرَ ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" حَتَّى عَفَوْا". [الأعراف 95].

قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ.
وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. وَالْعِجَّوْلُ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ الْعَجَاجِيلُ وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ.


(7) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
كَيْ تَشْكُرُوا عَفْوَ اللَّهِ عَنْكُمْ.

وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الظهور من قول دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ ،
وَحَقِيقَتُهُ الثَّنَاءُ على الإنسان بمعروف يوليكه .

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ )
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْكَلَامُ يَتَأَوَّلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ طَبْعِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لِمَعْرُوفِهِمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ شكر العبد على إحسانه إليه إذ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إِحْسَانَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَعْرُوفَهُمْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ.

فِي عِبَارَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الشُّكْرِ
فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الشُّكْرُ: الِاجْتِهَادُ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ مَعَ الِاجْتِنَابِ لِلْمَعْصِيَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ .
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: الشُّكْرُ هُوَ الِاعْتِرَافُ فِي تَقْصِيرِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" [سبأ: 13]
فَقَالَ دَاوُدُ: كَيْفَ أَشْكُرُكَ يَا رَبِّ وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ!
قَالَ: الْآنَ قَدْ عَرَفْتَنِي وَشَكَرْتَنِي إِذْ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الشُّكْرَ مِنِّي نِعْمَةٌ قَالَ يَا رَبِّ فَأَرِنِي أَخْفَى نِعَمِكَ عَلَيَّ قَالَ يَا دَاوُدُ تَنَفَّسْ فَتَنَفَّسَ دَاوُدُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يُحْصِي هَذِهِ النِّعْمَةَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا بِيَدِي مِنْ نِعَمِكَ لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلُّهِ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي

وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: الشُّكْرُ التَّوَاضُعُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَمُخَالَفَةُ الشَّهَوَاتِ وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسموات

وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ أَبُو الْفَيْضِ : الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ بِالطَّاعَةِ ، وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ ،وَلِمَنْ دُونَكَ بالإحسان والإفضال
.

قلت . الشكر :الثناء على صاحب النعمة والامتنان له والرضى عنه وذِكْر النعمة وهو أثر النعمة .
 
ربنا يجعل عفوه عنا دائم ورضاه علينا قائم يا رب
 

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)


الكتاب : التوراة .والفرقان : ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل فيكون الفرقان نعتا للتوراة وذلك عندما أتى موسى لميقات ربه ، قال الله تعالى ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء )
قال ابن كثير : وكان ذلك بعد خروجهم من البحر – وغرق آل فرعون -، كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف. ولقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} [القصص: 43]

_____________

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)



- لما عاد موس عليه السلام من بعد لقاء ربه تعالى ، وجد قومه قد عبدوا العجل إلهاً من دون الله .

- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ)
الْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ" [الحجرات: 11] ثم قال" وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ" .
وَقَدْ يَقَعُ الْقَوْمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ" وَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٌ إِلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا .
وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَوْمِ عَبَدَةُ الْعِجْلِ ، وَكَانَتْ مُخَاطَبَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لهم بأمر من الله تعالى.


-قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ)
يُقَاَلُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ: إِنَّمَا أَسَأْتَ إِلَى نَفْسِكَ. وَأَصْلُ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
- ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ )
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : التَّوْبَةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ ، وَكَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتْلَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَبَدَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ ،
قَالَ الزُّهْرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ" فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَامُوا صَفَّيْنِ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ .
فَلَمَّا اسْتَحَرَّ فِيهِمُ الْقَتْلُ (1) وَبَلَغَ سَبْعِينَ أَلْفًا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَإِنَّمَا رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَتْلَ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمَجْهُودَ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ نِعْمَةً بَعْدَ الْإِسْلَامِ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْبَةِ.
___________
(1) أي اشتد فيهم القتل، يقال للشيء استحرّ اذا صار حارّا .